أقودُ بسرعةٍ جنونية (سرعة 109 في شارعٍ سرعتُه المقررة 100) من البيت مُلتزمًا بالمسار الأيسر حتى وصولي إلى المطار. أعدو في أرجاء الصالة مُقلِّبًا نظري بين الشاشات بحثًا عن رقم بوابة رحلتي، مُبديًا على وجهي تعابيرَ العجلة والقلق أكثرَ من المطلوب ليلاحظَها جميعُ مَن تحُلُّ أبصارُهم عليَّ في الصالة. أهو شعورُ نشوةٍ عندما أُظهِرُ للناس أنني شخصٌ مشغول على عجلةٍ للوصول إلى رحلته المهمة التي ستنقله إلى مكانه المهم ليقضيَ حوائجَه المهمة؟ أم إنَّ ارتدائي تعابيرَ العجلة عبارةٌ عن تحذيرٍ متحركٍ يقول: “احذروا، شخصٌ مستعجلٌ يمشي أمامكم ولا يملك وقتًا لمساعدةٍ في الاتجاهات أو حمل حقيبةٍ أو إلقاء التحية في مصادفةٍ وقعت في أسوأ الأماكن”؟ لم أعرف أيُّهما السببُ الفعلي، لكن رغم كُرهي الاعتراف، فقد كانت تتملكني نشوةٌ بسيطةٌ من هذا التصرف حقًا، وكان غالبًا يؤدي غرضَه الذي افترضتُه سابقًا.
أعدو متجهًا إلى البوابة بحقيبتي الحمراء التي لا تُخفِقُ عجلاتُها في أن تنحرفَ عن مساري وتُجبرَني على التوقف لتثبيتها وإرجاعها إلى المسار، ثم العودة إلى سباق بوابة A06. رفعتُ بصري إلى البوابة التي وصلتُ إليها، A03، اقتربتُ ولا يزال هناك أمل. لا يخلو طريقي إلى البوابة من عقبات، مسافرون آخرون يمشون بتأنٍّ يقفون عائقًا في مسار مسافرٍ مهمٍ مثلي. أعدو متفاديًا بعضَهم وصادمًا كتفي بالخطأ بالبعض الآخر، مُطلِقًا عباراتِ الاعتذار المعهودة التي من المفترض أن تُطيِّبَ النفوسَ بغضِّ النظر عن الخطيئة: “معليش، المعذرة، معليش”.
يُزعجني تواجدُ هؤلاء المسافرين الذين لا يملكون القدْرَ ذاتَه من انشغالي، فأُضطرُّ أنا الراكبُ المشغولُ للغاية إلى أن أعدوَ وآخذَ حذري من الارتطام بهم وتعكير صفو نزهتهم المتجهة لرحلةٍ باقٍ عليها أربعُ ساعاتٍ على الأقل! تمنيتُ لو كان المطارُ منقسمًا إلى مسارين: مسافرٌ مهم، وغير ذلك.
أستطيع الالتزامَ بالمسار الأيسر (مسافرٌ مهم) والعدوَ بسرعةٍ تقلُّ رقمًا واحدًا عن السرعة التي سيخالفني عليها أمنُ المطار، متخيلًا روعةَ مظهري الخارق للقانون الذي يضمُّني إلى روعة مظاهر أبناء عمومتي الذين يقودون مركباتهم بسرعةٍ تجاوزت السرعةَ التي صُمِّمت لها المركبةُ، بينما يتصفحون “ستوري” السناب على هواتفهم ويُعدِّلون وضعيةَ استلقائهم على مقعد السيارة الذي افتقدَ لمسةَ حزام الأمان. لكن بالرغم من أمنيتي التافهة، تملَّكتني نشوةٌ من مظهري المشغول بين هؤلاء المسافرين، فأكاد أسمع أفكارَهم وهم ينظرون إليَّ قائلين: “مسكين، واضحٌ أنه مشغولٌ، من المفروض أن يبتعدَ الناسُ عنه”.
عدتُ أنظر إلى اللوحات لمعرفة البوابة التي وصلتُ إليها، A05، أوشكتُ على الوصول! أكاد أرى موظفَ الطيران المتعرِّق الذي يُحدِّثني أبناءُ عمومتي عنه، المسؤولَ عن الوقوف أمام البوابة وترقُّب الراكب المتأخر والمشغول للغاية، ويتملَّكني الحماس لأكون هذا الراكب! وصلتُ إلى البوابة ثم وجدتُ أن موظفَ الطيران واقف عند مكتبه بجانب البوابة ويبدو مُستريحًا على عكس توقعاتي، مُحدِّقًا في شاشة الكمبيوتر. بدت البوابة مُكتظة بالمسافرين الواقفين أمامها، منتظرين دورَهم للدخول. فتح أحدُ الموظفين البوابة فيما قال الآخر في المذياع: “نداءٌ لجميع المسافرين على رحلة الخطوط SC1598 والمتجهة بمشيئة الله إلى الرياض، لقد بدأ الصعودُ إلى الطائرة”. عجيب، نظرتُ إلى تذكرتي مرةً أخرى ووجدتُ التوقيت عند خانة “توقيت الصعود” يقول 17:45، وهذا هو التوقيتُ الحالي، فمن المفترض حسب التذكرة أن تكون الطائرة في أوج تحليقها نحو السماء الآن! لا بد أن الرحلةَ تأخرت، فأقاربي أخبروني أن تأخَ الرحلات أمرٌ معتاد. وقفتُ بأدبٍ في الصف لأعبرَ البوابة. ولجتُ النفقَ وأجلتُ بصري في جدرانه ونوافذه، يا للمكان المُهيب! ازداد تعرُّقي أكثرَ من المعتاد، ولم أكن موقنًا أكان السببُ قلةَ الهواء في النفق، أم سباقَ الماراثون الذي أوصلني إلى البوابة، أم أنني كدتُ أُسقِطَ جميعَ أغراضي محاولًا إخراجَ بطاقة الهوية عند البوابة.
لم أقدر على تفويت الفرصة! سحبتُ هاتفي وأنا لا أزال ألهث، ثم وجَّهتُه نحو نوافذ النفق العاكسة لصورتي وأنا واقف بجانب حقيبتي، والتقطتُ صورةً لقصة “السناب”. لا ضيرَ في أن أضيفَ عليها رمزَ الطائرة مع موقع المطار. نشرتُ الصورةَ والنشوةُ تسري في جميع أنحاء جسمي، فعشراتُ الصور التي رأيتُها لأبناء عمومتي بهذا الشكل أضرمت نارًا جعلتني أترقبُ الفرصةَ لالتقاط الصورة ذاتها بنفسي.
وصلتُ أخيرًا إلى باب الطائرة بعد انتظار عشرين دقيقةً في الصف. دخلتُ فاستقبلتني المضيفةُ بترحابٍ وسألتني: “رقم المقعد؟” لم أسمع ما قالت فأجبتُها قائلًا: “الحمد لله بخير”، وتوجهتُ إلى المقاعد بوجهٍ اكتسى بالحمرة من الخجل، فمن المؤكد أنها تفكر الآن في مدى سذاجتي.
غدوتُ حافظًا لرقم مقعدي بعد المرات العديدة التي قرأتُ فيها التذكرةَ من شدة الحماس، فشرعتُ أتفحص جميع أنحاء المقاعد لمعرفة الرقم. صوَّبتُ نظري إلى مُسند المقعد ظنًّا بأن رقمَ المقعد سيكون مثبَّتًا عليه كمقاعد دور السينما، لكن لم أجد عليه أيَّ رقم. “كم رقم مقعدك؟” استفسر الرجلُ الواقف خلفي.
“C34”.
رفع الرجلُ نظرَه إلى الأعلى ثم أشار إلى أحد المقاعد وقال: “هذا مقعدُك”، وأشار إلى الجزء العلوي من المقاعد وقال: “هنا تستطيع معرفةَ رقم المقعد”، وابتسم ابتسامةً رُسِمت عليها كلُّ أنواع الاستهزاء والاحتقار. شعرتُ برأسي يشتعل. ازداد تعرُّقي حتى صرتُ أعرف بدقةٍ مكانَ كل نقطة عرقٍ على ظهري. بادلتُه الابتسامةَ وشكرتُه قبل رفع حقيبتي إلى مكانها في الأعلى والجلوس على المقعد.
تسارعت دقاتُ قلبي وشعرتُ بأنه لا يمكن لأي تكييفٍ في هذه الطائرة أن يُعوِّضَ الحرارةَ الملتهبة التي بلغها جسمي. أتمَّ الركابُ دخولَهم إلى الطائرة وجلوسَهم على مقاعدهم، فيما تأملتُ وجوهَهم واحدًا تلو الآخر، ولاحظتُ أمرًا غريبًا لكن لم أُدرك ما هو في البداية، ثم انتابني الإدراكُ فجأةً، جميعُهم من ضمن الأشخاص الذين عدوتُ بمحاذاتهم في الصالة!
الركابُ الذين رمقتُهم بنظراتي حين كنتُ أعدو وقلتُ في نفسي إنهم يتنزهون مقارنةً بي أنا الراكبُ المشغول، يدخلون إلى الطائرة في موعدها عالمين بأماكن مقاعدهم غيرَ محتاجين لأي مساعدة، يا لشماتتهم بي! ظلَّ كلُّ راكبٍ منهم يرمقُني بنظراته كلما مرَّ بمقعدي وأنا أغرق في بحر عرقي، أكاد أسمع ما يدور في خَلَده: “هذا الأحمقُ الذي كان يعدو قبل موعد الطائرة، ولا يعرف حتى مكانَ مقعده، لا بد أنها أولُ مرة يسافر فيها المسكين!”.
دفنتُ وجهي بين كفَّيَّ لكيلا أرى السهامَ التي يُطلقونها بأعينهم، وأيضًا لكي أبدوَ كالشخص المُثقَل بالهموم، عساهم أن يرحموني قليلًا من شماتتهم. سمعتُ ضحكاتٍ خافتةً من صف المقاعد على يميني، رفعتُ رأسي ونظرتُ فإذا بفتاتين تتضاحكان وتتهامسان، لا شكَّ أنهما تضحكان على حالي! “انظري إلى الذي على يسارنا كيف يبدو حزينًا، لا بد أنها أولُ مرة يركب طائرةً”، أكاد أسمع كلماتِها تتردد في أذني بوضوحٍ تام. ما خطر ببالي عندما اتخذتُ المسارَ الأيسرَ في طريقي إلى المطار، وعدوتُ نحو بوابتي كمتسابق المئة متر أنني سأصيرُ أضحوكةَ هذه الرحلة وحديثَ ركابها الشاغل.
أنزلتُ رأسي بذُلٍّ وبؤسٍ وحوَّلتُ نظري لشاشة هاتفي، دخلتُ مباشرةً إلى “الواتساب” متجاهلًا ردودَ أبناء عمومتي في “السناب” على صورة نفق الطائرة، رغم أني قبل خمس دقائق كنتُ مستعدًا لوهْب كلِّ ما أملك لقراءتها. توجهتُ عوضًا عن ذلك إلى محادثة والدتي وأعدتُ قراءةَ الرسالة التي كلَّفتني فيها بالطلب المهم الذي أحرق أعصابي حتى تجاوزتُ بوابةَ الصعود: “هذا موقع بيت خالتك. انتبه على نفسك ولا تنسى تجيب السمن معك وأنت راجع”.

اترك تعليقاً